تحديد الاتجاه : لماذا يتوجب علينا مناقشة قضايا المرأة الليبية

  التغير السياسي الذي حدث في 2011 كان سبباً في انتشار مؤسسات المجتمع المدني، وبالأخص منظمات حقوق المرأة. ودعت العديد من النساء الناشطات في حقوق الإنسان إلى مجتمع اكثر تضامناً وإلى قدر أكبر من المساواة وإحترام سيادة القانون. ولكن في سياق الصراع العسكري الدائر الأن، العديد من الليبين ينظرون الى قضايا المراة على أنها غير مهمة ومبتذلة تماماً. وفي هذه المقالة أود أن أنتهز الفرصة لتحليل و تحدي هذه الحجج في محاولة مني لتفنيدها بشكل فعال. وهذا بتقديم أدلة منآداب التمكين الإقتصادي و الجندر وسوف أعرض كيف تكمُن قضايا المرأة في صميم فهم الصراع الحالي وبالتالي لا يمكن تجاهلها. وأيضا سوف أظهر بذات القدر كيف يمكن للمناقشات المستنيرة حول قضايا المرأة في ليبيا أن تساعد في تعزيز العلاقات بشكل أفضل  بين الجنسين وتصحيح سوء الفهم وبناء حياة أفضل ليس فقط للنساء وإنما للمجتمع بأكمله

المقدمة

 أدى الصراع السياسي العسكري في ليبيا الى تداعيات عميقة على الاقتصاد والمجتمع. هذا ويعتمد الاقتصاد الليبي بشكل حصري على صادر النفط ومنذ بدء الصراع انخفض إنتاج النفط الى ما يقارب خُمس ما كان عليه قبل عامين
وأدى هذا الإنخفاض إلى تراجع في العائدات وتراجع قيمة الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية وهذا سبب في تصاعد التضخم. ويمثل ارتفاع الأسعار الى جانب النقص الحاد في السيولة في المصارف وانقطاع الكهرباء لفترات طويلة، جزء من المعاناة التي يواجهها الليبين اليوم
وتؤثر هذه المصاعب الإجتماعية والإقتصادية على آفاق المواطنين المستقبلية وتصرفاتهم وعلاقاتهم اتجاه المواطنين الآخرين. ولكن في الحين الذي تؤثر فيه هذه المصاعب على الجميع، نشرت صورة حديثة على الإنترنت تكشف عامل النوع الإجتماعي للأزمة الإقتصادية. وظهر في الصورة مجموعة من النساء الليبيات ينتظرون أمام أحد المصارف للحصول على رواتبهم.  وفيما بينهم رجل في يده عصا كبيرة وعلى وجهه تعابير عدوانية، يدفع بأحد السيدات الى الوراء ويهددها على ما يبدو بالضرب. ولأسباب مفهومة استحضرت الصورة نقاش قوي على الإنترنت بتعليقات تعبر عن التعاطف والشفقة للسيدة مطالبينها بالتحلي بالصبر في هذه الأوقات العصيبة. بينما وضع معلقين اخرين اللوم على السيدة لوقوفها خارج المصرف من أمرها. وأيضا قلل بعض المعلقين من شأن هذا العنف مدعيين بأنه أصبح جزء من الحياة اليومية في ليبيا
تظهر التعليقات المواقف التي تؤثر على المرأة خاصة في الأماكن العامة

 وفي مقال نشر مؤخراً بعنوان “القضايا الأساسية التي تمس حياة المرأة في ليبيا”، كتبت آمنة عبداللطيف حول انشغالات المرأة الرئيسية مرتكزة على نتائج بحوث نوعية. وجدت آمنة أن الشواغل الثلاث الرئسية هم الأمن والتمثيل والعجز الحكومي. ولكن ما كان ملفتاُ حول هذه المقالة هو كشفها  “بأن الحركة النسوية تعتبر أمر مخيف للكثير من النساء”، و”الفرص تعتبر محدودة بسبب القيود المفروضة على السفر” وايضا ان “النساء غالباً مايكونوا سجناء لصورهم النمطية”. وهذه الإظهارات مثيرة جداً للإهتمام والتي تسلط الضوء على أشكال الظلم التي تعيق المرأة الليبية من التقدم والإنخراط علناً في مبادرات تمكين المرأة
وبالنظر الى هذا، أريد أن أقدم أدلة  من آداب التمكين الإقتصادي و الجندر لعرض كيف تكمُن قضايا المرأة في صميم فهم الصراع الحالي وبالتالي لا يمكن تجاهلها. وسأعرض بذات القدر كيف يمكن للمناقشات المستنيرة حول قضايا المرأة أن تساعد في تعزيز العلاقات بين الجنسين بشكل أفضل وبناء حياة أفضل ليس للنساء فقط بل للمجتمع بأكمله

التعرف على الأبعاد المتعددة لمفاهيم نوع الجندر
تعتبر مفاهيم العدالة والمساواة والتمكين الإقتصادي و الجندر، مفاهيم متعددة الأوجه. والناس في جميع أنحاء العالم لديها تعريفات مختلفة ومحددة ثقافياً لهذه المصطلحات. ونحن في ليبيا كناشطين في مجال حقوق المرأة، يجب أن ندرك الطبيعة المعقدة والغامضة لهذه المصطلحات عند مناقشة احتياجات ورغبات المرأة. و أظهرت النتائج الإجتماعية وتجارب المرأة عن طريق عوامل متعددة مثل العرق والثروة والتعليم والوضع الإجتماعي والحالة الإجتماعية ووضع الهجرة والعمر ومسؤوليات الرعاية أن المرأة الليبية هي أبعد ماتكون عن الكيان الواحد، حيث أن كل امرأة انغمست في العلاقات الإنتاجية القوية التي تمكنها وتمنعها من التقدم في ذات الوقت. ولنقولها بصراحة، التجارب الإقتصادية والإجتماعية للمرأة الليبية من مصراته وطرابلس وبنغازي منذ 2011 تختلف عن تجارب امرأة من تاورغاء
وبإمكاننا فهم الأسباب التي وراء وصولنا إلى هذا الوضع وكيف يمكننا المضي قدماً وايضاً توضيح  القضايا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والثقافية التي تسعى إلى تقسيم ومنع النقاشات التي تتعلق بقضايا المرأة وهذا إذ نجحنا في التفكير فيما يدعو له علماء الإجتماع بطريقة متعددة الجوانب. وبالإضافة الى ذلك، تقديرنا للإختلافات بين النساء يمكن أن يساعد في تعزيز روح التضامن بيننا وتجنب النخبوية وإعادة صياغة السلطة الذكورية

وصول المرأة  الى الموارد بشكل أكبر يؤثر على المجتمع بأكمله
ولكن لكي نتبث للمجتمع أن قضايا المرأة هامة ويجب أن تناقش، يجب علينا إظهار كيف يمكن لسياسات مراعاة الفوارق بين الجنسين أن تدعم تقدم المجتمع بأكمله خاصة في إقتصاديات التنمية والإقتصاد الكلي
يهدف مركز جسور للدراسات والتنمية إلى تعزيز التنمية البشرية من خلال تجسير الهوات بين الجنسين لبناء تنمية مستدامة للمرأة في ليبيا. والأسباب التي تكمن وراء تبني مثل هذه المواقف مدعومة بمجموعة كبيرة من ادبيات التنمية الإقتصادية.وعلى سبيل المثال يقدم اغنيس ر كويسيومبينغ أدلة في القرارت المنزلية والنوع الاجتماعي والتنمية، تتبت أن زيادة سيطرة المرأة على الموارد أو سلطة إتخاد القرار له آثار إيجابية على عدة نتائج هامة مثل : التعليم وتغذية الأطفال وكذلك على سعادة المرأة نفسها. وهذا يعني إذ تم منح النساء مساحة أكبر للسيطرة على الموارد، فإنهم يملن  إلى إنفاق المزيد من المال على الغذاء والتعليم ورفاهية أطفالهم
وفقاً لتقرير نشرته اليونسيف “150,000 طفل في ليبيا بحاجة الى تعليم جيد”. وكما ذكر سابقاً، أدى الإنخفاض في صادرات النفط الى التضخم ونقص السيولة في المصارف. في حين يواجه المجتمع هذه الصعوبات الإقتصادية، يبدو أن الضغط من أجل وصول المرأة الى الموارد بصورة أكبر يمكن أن يساعد على تخفيف أثر هذه المشاكل الإقتصادية على الجيل القادم. وذلك  لأن اعطاء مساحة أكبر للمرأة للسيطرة على الموارد وسلطة إتخاد القرار من شأنه أن يخلق نتائج اكثر إنصافاً بين الجنسين وذلك بتوظيفها من خلال أطفالهم أو بعبارة أخرى قادة المستقبل وهذا إستناداً الى أبحاث تجريبية وأنثروبولوجية واسعة

فهم التمكين الإقتصادي
بخصوص “القضايا الأساسية التي تؤثر على حياة المرأة في ليبيا” ترى خديجة شابة من ليبيا أن الفرص محدودة للمرأة اكثر وذلك بسبب القيود المفروضة على السفر. يبدوا أن خديجة تشير الى النقص في وسائل المواصلات المتاحة والتي تمنع المرأة من الوصول إلى فرص عمل معينة في ليبيا.  وهذا كذلك يؤكد أهمية التنمية في تغير وضع النساء والفرص المتاحة لهم في المجتمع.
يجب علينا فهم ماتعنيه مبادرات التمكين الإقتصادي في السياق الليبي عندما نفكر في تعزيزها. ويجب أيضاً أن نكون على دراية بالطرق التي استغلتها تاريخياً مبادرات التمكين عن طريق منظمات دولية لتنفيذ فكرتهم من “تمكين” المرأة. وهذا ايضاً ما قامت به الأنظمة الإستعمارية في المغرب، وعلى سبيل المثال في الجارة الجزائر حيث طلب من النساء الكشف عن مبادرات تمكينهم المفترضة. وسبَب هذا الإرث التاريخي المؤلم إرباك بشأن ما يعنيه التمكين وكيف يمكن تحقيقه في دول مابعد الإستعمار
ولمكافحة هذا الإرث نحن بحاجة إلى التفكير في طرق قياس مختلفة لتمكين المرأة، طرق تكون مخصصة بالسياق التاريخي والثقافي والإجتماعي والإقتصادي للبلد. توضح أعمال خبيرة التنمية الاقتصادية الدكتورة نائلة الكبير، وسيلة قياس مثيرة للإهتمام لتمكين المرأة. وفيما يخص “الموارد والقوة والإنجازات” قالت د. الكبير بأن التمكين يجب أن يقاس على أنه عملية تغير مفيدة في حياة المرأة. وقدرتها على ممارسة حرية الإختيار تعتمد على ثلاث أبعاد مترابطة : وصولها الى موارد تمكنها من إتخاد قرارات مستنيرة بشكل جيد وقوتها ونتائج القرار العائد على رفاهيتها
يوضح تعريف د. الكبير أن أي سياسة أو خيار للتمكين يجب أن تؤثر نتائجه على المرأة بشكل إيجابي. وتؤكد نظرياتها القياسية للتمكين أنها عملية تدريجية ولا يمكن أن تحدث فرقاً فجأة من خلال سياسة واحدة تراعي الفوارق بين الجنسين. وايضاً يمكننا أن نلاحظ من خلال معادلة د. الكبير أن أهمية وصول النساء للموارد (التعليمية والإجتماعية والإقتصادية)  تكمن في تزويدهم بالقدرة على إتخاد القرارات الصائبة لأنفسهم وأسرهم وبالتالي للمجتمع كاملاً
تعزز مراكز الدراسات والتنمية مثل جسور هذا النوع من التفكير النقدي من خلال مجلة المفكرة، والتي نأمل أن تكون مصدراً تعليمياً ينشر التفاهم وتبادل الأفكار حول سبل تمكين المرأة الليبية بكافة اختلافاتها وتنوعها. ويساعد تشكيل شبكة من الأفكار حول تمكين المرأة على فهم جذور القمع بطريقة أفضل وكيفية التغلب على العقبات التي تقف عائقاً أمام تمكيننا. ومن المهم الإنخراط في مثل هذه التبادلات للحد من خطاب الطرف الأخر والذي يدعي بأن النشطاء في مجال حقوق المرأة، هم نشطاء زائفون.وعلاوة على ذلك، تبادل الأفكار من خلال منصات مثل المفكرة، يمكن أن يوفر صوت للمرأة الليبية لمواجهة فرض الإستعمار الجديد لتفسيراته التي تخص تمكين المرأة

الخاتمة
ناقشت في هذه المقالة الأسباب العديدة التي تتطلب منَا الإستمرار في تسليط الضوء على قضايا المرأة حتى خلال فترة  الصراع السياسي العسكري. وعرضت ايضاً كيف أن الضغط من أجل وصول المرأة بشكل أكبر  للموارد وأدوار صنع القرار يعتبر إستثمار قوي للجيل القادم والذي ايضاَ  سيعود بالنفع على المجتمع بأكمله على المدى البعيد. وهذا لأن الأبحاث التي تتعلق بنوع الجنس والتنمية الإقتصادية أتبثث أن النساء يملن الى إنفاق المزيد على التعليم وتغذية أطفالهم. وفي الوقت الذي يعاني فيه الأطفال أكثر من أي وقت مضى، يعتبر تجهيز المرأة لوصولها للموارد، إستثمار يمكن أن يجير البلاد من خسارة مواهب قادة المستقبل.
ولقد أظهرتُ ايضاً أن التمكين لا يتحقق بين ليلة وضحاها، وإنمَا هو عملية تدريجية. وتوضح نظرية د. نائلة الكبير أن التمكين لا يمكن أن يفرض على النساء وإنما يأتي عن طريق وصولهم للموارد والقوة وحرية الإختيار. و ذلك يمكن تحقيقه فقط من خلال نشر كيفية الوصول الى الموارد  التي تُمكن النساء القادمات من خلفيات إجتماعية وإقتصادية مختلفة من إتخاد قراراتهم الخاصة. ويمكن أن يساعد التبادل البنًاء بين النساء على تعزيز التفاهم حول رغباتنا واحتياجاتنا والتشجيع على لم الشمل. وبشكل أساسي منع الإستعمار الجديد من فرض صوره الخاصة لتمكين المرأة.
الرحلة طويلة وشاقة ويجب أن لا نستسلم. نحن نعمل ونحدد وجهتنا بالإعتراض علناً وبالتفكير النقدي بالرغم من التحديات التي

تعمل الآنسة أسماء يوسف حالياً مع مركز جسور للدراسات والتنمية لتطوير المبادرات التي تعزز فهم قضايا المرأة في ليبيا. وهي تستمتع جداً بالكتابة وتساهم بشكل دوري مع مجلة المفكرة. ولديها أيضا مدونتها الخاصة والتي يمكن الوصول إليها عن طريق     هذا الرابط  https://assma93.wordpress.com/author/assma93/